-من علمنة الدولة إلى علمنة القيم -الجزء الأول 


        إن السياق العالمي لظهور العلمانية السياسية ارتبط ببنيات اجتماعية و ثقافية محددة بمنطلقات فلسفية لمرحلة مهمة من مراحل تطور العلم و المعرفة ، ذلك السياق الذي برزت فيه و بشكل قوي تناقضات بين أجزاء مختلفة من المنظومة الشاملة لقيام الدولة الأمة ،تناقضات أسست لنوع جديد من التفكير يجد أساسه المرجعي في نظام الثنائيات و الفصل بين الأجزاء ،هذا الإطار الذي سيتطور مع تطور النظرية التجزيئية في مجال العلوم الإنسانية فيما بعد ،تلك إذن هي النتيجة الطبيعية لتلك الفلسفة ، و بطبيعة الحال مع الأخذ بعين الاعتبار تطور الفكر اللاهوتي بأوروبا منذ المدرسيين إلى آخر بقايا رواسب الكنيسة المحدثة المشرعنة لسلطتها بسند إلهي .

     غير أن هذا الفصل يحيل من بين ما يحيل عليه إلى بداية ممارسة جديدة لأسس قيام الدولة الحديثة وهي الأسس القيمية الأخلاقية كنتاج لتعاقد اجتماعي بين الأفراد لمأسسة طبيعة العلاقات التي تنظمهم ،وهو التصور الذي بدأ مع بداية النزعة المادية الحديثة في البدايات الأولى من القرن السابع عشر ،هذه النزعة التي حاولت التأصيل لفكرة أساسية تنطلق من فصل القيم عن الدين أو بشكل آخر علمنة القيم ،في هذا السياق سيظهر موقف توماس هوبس أحد أكبر الماديين المحدثين وهو تصور ينبني على معرفة العلة و حركية الأجسام من جهة و مبدأ التنازل الأخلاقي من أجل السلم من جهة ثانية ،هذه الرؤية ستؤصل لمنظومة القيم تأصيلا ينطلق في ذاته من أول قاعدة خلقية وهي طلب السلم .و يرجع مسألة الأخلاق إلى الطبيعة ، و القيم مصدرها العلاقات الإنسانية في حالة الطبيعة باعتبار الدين نتاجا لهذه العلاقات التي هي في الأصل نابعة من الخوف ،" الدين ظاهرة طبيعية أصلها الشعور بالخوف " .

     أما في ألمانيا فقد تطورت المدرسة النقدية مع امانويل كانط بمفاهيم و براديغمات جديدة لفلسفة الأخلاق التي يعتبر كانط أصلها في العقل الخالص من كل مادة ،وأن مبدأ العلية مفارقة للزمان تضع القانون و تفرضها على نفسها ، بهذا المعنى تصبح علية الأخلاق عند كانط نتاجا للعقل العملي الأخلاقي و العقل الخالص من المادة . ومع بداية النزعة الوضعية مع نهاية القرن التاسع عشر في فرنسا طرحت المدرسة الاجتماعية تصورا حول العلاقة الوظيفية بين الأخلاق و تطور المجتمع، و أن طبيعة المجتمع هي المتحكمة في النمط القيمي و الأخلاقي باعتبار الأخلاق روحا للمجتمع ،وفصل هذا التصور اميل دوركايم من خلال ربطه الظاهرة الاجتماعية بالعامل الاجتماعي ، و الظاهرة الأخلاقية بالعامل الأخلاقي ،هذه الحتمية الاجتماعية لم تكن بدورها بريئة من العلمانية الأخلاقية، كل هذه المواقف جعلتنا نستنتج تصورا عاما -لا نريد الخوض في تفاصيله نظرا لضيق مجال التناول - حول الأخلاق المجردة من الدين في الفلسفة الغربية وجعله (أي الدين) أداة لإعادة إنتاج القيم السائدة ،هذه القيم النابعة إما من الطبيعة أو العقل أو المجتمع ، و كلها مواقف تعبر عن الفصل بين الدين و الأخلاق كشكل جديد من أشكال العلمانية في أفق علمانية شاملة للسياسة و الاقتصاد و القيم ،والحديث عن هذا الشكل الجديد للعلمانية لم يكن في ذاته حادثا عابرا ، بل هو في اعتقادنا نتيجة تراكمات الفصل بين الأجزاء المرتبطة بجوهر الدين ، منذ طرح سؤال التنوير و ما عقبه من منتوج فكري، و جعل الممارسة الدينية ممارسة جوفاء تفتقر إلى شروط الاستمرارية و البقاء ( الدين الطقوسي ) ،وهذه التحديدات الوضعية للدين تنتشر يوما بعد يوم بين الأوساط و النخب باختلاف وظائفها و إطاراتها المرجعية ، لتكون وظيفة المسجد -مثلا – منحصرة في الصلاة ، في الوقت الذي كان فيه المسجد مؤسسة للتربية و الاقتصاد و السياسية و العلم و التعبد .. ، إننا في الحقيقة نعيش من جهة انعكاسات المواقف السائدة في الغرب حول قضية الأخلاق و السياسة و الدين التي تجد عمقها في الفلسفة الأخلاقية الغربية ، ومن جهة أخرى استلاب و اغتراب في المفاهيم و أنماط التحليل الغربية التي كانت بحق غير منطقية لكن في سياق صحيح ،وهو سياق منع عملية التفكير و الإبداع و التجديد و العلم بتبرير ديني .

         فما هي طبيعة العلاقة بين الدين و الأخلاق ؟

       وهو سؤال فلسفي قبل أن يكون فقهي ، يجد جذوره في أصل الأخلاق التي أرجعتها الفلسفة الغربية – كما رأينا – إلى عوامل متعددة تشد وثاقها الى اجتهاد العقل الانساني . في اعتقادنا أن الأخلاق أصلها الأول هو الدين و هو الموقف الذي بدأه أستاذ المنطق و الفلسفة طه عبد الرحمان في الفصل الأول من كتابه " سؤال الأخلاق "، فالأخلاق عنده تدور على الخير و الشر وهما قيمتان لا تنشان من الواقع، لأن الواقع لا ينشئ إلا الواقع ، و القيمة أمر واجب و الواجب خلاف الواقع، كما يؤكد على أن الخير و الشر لا ينشان كذلك من العقل المستقل أي المجرد لأن العقل المستقل لا ينشئ إلا القانون ،أما القيمة فهي عبارة عن مثال ، و المثال خلاف القانون ، إذ القانون يسبقه الشك و قد يعقبه الخطأ، في حين أن المثال سبقه اليقين و لا يعقبه إلا الصواب، فلا يمكن إلا أن تكون الأخلاق -على الأقل في أصولها- مصدرها الدين فيُحدِث منها العقل بإحدى آلياته الاستدلالية فروعا، فيعتقد البعض أن الأخلاق كلها أصولا و فروعا إنما هي من صنع العقل الإنساني . و سيعرض طه عبد الرحمان نقدا للمبدأ الأول ل " التعددية القيمية " و هو مبدأ " التعارض بين الدين و العقل " فالدين حسب هذا التحليل هو أصل الأخلاق و ليس العقل الإنساني، و هذا التعارض أو التجزيء بين الدين و الأخلاق هو الذي انبتت عليه النزعة العلمانية في شكلها القيمي، فيكون هذا المذهب التجزيئي نتيجة من نتائجها.

     و لا نريد في هذا المقام التعرض لهذه النزعة، بقدر ما نود أن نتأمل هذا التعارض بما يكشف عن إفضائه إلى نقيض مقصوده العلماني، فالمعنى المباشر للتفريق بين الأخلاقي و الديني معنيان كلاهما باطل : أحدهما أن الدين لا شيء من الأخلاق فيه و الثاني أن الأخلاق لا شيء من الدين فيه .وهذه "الدهرانية" أي فصل الأخلاق عن جوهر الدين هي سابقة تاريخيا على فصل السياسة عن الدين "العلمانية" ، إنها إذن فائض في قيمة إنتاج نمط فكر مجرد يتحول بموجبها الدين جزء لا يتجزأ عن المكتسب الإنساني في شكله العقلي أو المادي، و كما رأينا سابقا فهذه الأشكال من التحليل مرتبطة بسياق زماني و ثقافي جد محدد لم تعد الإنتاجات الفكرية الغربية ذاتها تنطلق منه ، نظرا لأن فلسفة الأنوار انتهت على الأقل في مستواها العملي مع بداية النزعة الاستعمارية للدول الفقيرة من قبل دول مؤسسة على قيم فلسفة الأنوار، و هي فلسفة الحرية و الكرامة و الإبداع و التخلص من عبودية الكنيسة ، لتصبح هذه الدول ذاتها كنيسة تقمع و تنهب و تستعمر لكن في شكل دولة و باسم العلمانية ...





خالد وخشي